لقد جعل التقدم التكنولوجي هذا العصر - في مجال الأعلام وتطور وسائل الاتصال ، من الإنترنت والقنوات الفضائية وغيرها - عصر حوار الحضارات، بل صراع الحضارات!.. حيث نرى أن خصوصيات وأسرار المدارس الفكرية والدينية المختلفة قد طرحت ى بساط البحث والنقاش للجميع ، ولم يعد يخفى منها شيء على الباحثين .. وفي خضم هذه المناظرات الثقافية ، نرى من الضرورى جدا وضع قواعد علمية وعملية ، ليكون أي حوار ثقافي حوارا ً بناءا : له أهدافه و آدابه ، وليس جدالا ً فارغا ً مضيعا للوقت والجهد .
هناك أصناف من المجادلين عرفتهم آيات الكتاب الحكيم : فهناك المجادلون عن جهل ، و هناك المجادلون أتباعا أعمى لآبائهم أو لشياطين الجن والأنس..{ و من الناس من يجادل في الله بغير علم ، ويتبع كل شيطان مريد}.. وهناك المجادلون عن كبر ٍ وتعال ٍ على الغير..{ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر} .. و أخيرا ً هناك المجادلون لأجل هدف مقدس ، وذلك للدعوة إلى سبيل الله تعالى ، وتوعية المجتمع { أدع ُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} .
ان أول قواعد الحوار السليم والهادف هو: التخصص في موضوع الحوار.. فمن المؤسف حقا أنه في الوقت الذي يحترم فيه جميع العقلاء ارباب التخصص فى الطب والهندسة وغير ذلك من فروع المعرفة ، فاننا نرى فى المقابل ان الكثيرين مستعدون للإدلاء بدلوهم في أمور الدين من دون سلطان مبين !.. فنرى تارة صحفيا ً يتكلم في الشريعة ، أو شخصا ً لا يتقن العربية أو فهم ظواهر الكلمات الواردة فى الدين ، الا انه يتحدث باسم القرآن والرسول (ص).. بينما نرىعلماء الدين يبذلون جهود سنوات طويلة ، فى فهم ما ورد فى سنة النبي وآله (ع) ، وتمييزها إلى صحيح و حسن و موثق ومرسل و مسند ، كل ذلك خوفا من الوقوع فى الظن الذى لا يغنى عن الحق شيئا.
ان مما يؤكد الحاجة إلى التخصص، هو هذا الكم من المفاهيم الهلامية التي تطرح في أسواق الفكر هذه الأيام ، ولطالما اسيئ استغلالها نظرا لعدم وضوح معانيها وحدودها بدقة مثل : مفهوم الحرية، والديمقراطية ، والشورى ، وحرية المرأة ، والانفتاح على الغير، والتقليد ، والتحديث ، والعولمة ، وغير ذلك .. ومن الواضح ان هذه المفاهيم تتوقف عليها مواقف عملية ، تغير مجرى حياة الفرد والامة سواء فى جانب الخطأ او الصواب.
ان من قواعد الحوار الاساسية : هو نفي الإنّية والذاتية ، و حب الافحام والغلبة الفكرية .. وهذا من أصعب الأمور على النفس ، وذلك لأن المحاور الذى لم يخرج من اسر ( الانا ) يحب أن يبرز نفسه من خلال اظهار قوته وتمكنه في الحوار ، و من ثم الانتصار فيه ، ولو كان على حساب الحقيقة التى يفترض لزوم الوصول اليها !! .. و قد قيل: أن آخر ما يخرج من قلوب الصديقين هو حب الرئاسة!.. وعليه فان المناقش المثالي هو الذي يعترف بالهزيمة أمام الخصم عندما يرى قوة حجته ، قبل ان يقف امام المحكمة الكبرى لرب العالمين !! .
ان من القواعد الأخرى ايضا : هو التحرز عن الحوار مع من لا يريد الوصول الى الحقيقة .. فهناك صنف من السوفسطائيين أو الفارغين الذين يجادلون لهدف الجدال نفسه، فتراهم يتكلمون في كل ما هب ودب ، و كل همّهم هو أن يشار إليهم بالبنان!.. وشتان بين هذا النموذج ، وبين امثال سلمان الفارسي الذي قضى عمره متنقلا ً بين البلاد بحثا عن الحقيقة ، الى ان استقر عند نمير الوحى المحمدي !.. وقد امرنا من خلال الروايات ان نجس نبض الطرف المقابل فى رغبته للوصول الى الحقيقة ، فان رايناه كذلك فانه يحسن الدخول معه فى الحوار ، والا فلا يحسن صرف لحظات العمر الغالية فى حوار الجهلاء!!
ومن القواعد الأخرى : الابتعاد عن النقاش في الفروع ، قبل تثبيت الأصول .. فلا بد من التركيز على القواسم المشتركة ، ليكون النقاش مبنيا ً على أساس علمى ومنطقي سليم .. فهل من المعقول ان نقنع المنكر لوجود الله تعالى بعدالته مثلا ؟!..او نقنع المنكر لنبوة النبي الخاتم (ص) بعصمته مثلا ؟! .. أو نقنع المنكر لمبدأ الامامة واستمرارية التشريع من خلالها ، بفروع المذهب الثابتة من خلال كلمات ائمة الهدى (ع) ، كالتقية والتبرك والزواج المؤقت ، وغير ذلك من التفريعات الفقهية ؟!..
ومن القواعد المهمة في هذا الخصوص : التحبب إلى الطرف الآخر ، و احترامه ، وملاطفته .. وخصوصا إذا كان من المستضعفين الذين ليس لهم غرض مشبوه من وراء النقاش .. فالمناظر الناجح هو الذي يتكلم بثقة واطمئنان بما يعتقد به ، ملتزما حدود الأدب ، متورعا عن اسلوب التجريح والسباب والغوغائية .. اذ انه بذلك يدخل فى قلب الطرف المقابل ، ليكون ذلك مقدمة لادخال الفكرة الى عقله .
في الوقت الذي نهى فيه ائمة أهل البيت (ع) عن الجدال مع الخصوم بغير أدلة دامغة ، لأن ذلك مما يزيد من عداوتهم وتعصبهم ، فانهم فى الوقت نفسه يفرحون بوجود طبقة مثقفة متفقهة فى الدين : تعرف ما هو مطروح في الساحة من أفكار وشبهات ، و تحسن التصدي لها ، اعزازا لكلمة الحق فى عصر عاد فيه الدين غريبا ، وذلك أمثال هشام بن الحكم و بن الطيار الذين نالا أكبر الثناء من الإمام الصادق (ع) .. أفلا يحسن بنا - و نحن ننتمي إلى مدرستهم التي تمثل أقوى تيار فكري متماسك ومتوازن فى تاريخ الاسلام - أن نكون محاورين أشداء دفاعا ً عنها ؟!.. وخاصة فى عصر عاد الدين فيه غريبا كما بدأ غريبا ، وطوبى لمن شمله وعد النبى (ص) حيث قال : فطوبى للغرباء !!